إلى أهالي الشهداء والجرحى والمصابين
الصبر والقضاء بين أهل الأرض والسماء
بقلم / محمد صلاح الدين
لقد حكمت المرأة التي مات عنها زوجها ووقفت على قبره تنعيه باكية ، وقد جاءها رجل يواسيها فقالت له المرأة إليك عني !
فذهب عنها الرجل ثم جاءها الناس فقالوا لها أتدرين من هذا قالت لا فقالوا إنه رسول الله صلّ الله عليه وسلم فقالت لم أعرفه ، ثم ذهبت إليه لتعتذر فقال لها صل الله عليه وسلم " إنما الصبر عند الصدمة الأولى" . ولقد ذهبت الصدمة الأولى باستشهاد أبناء مصر الأعزاء الذين رووا بدمائهم الطاهرة مدن وشوارع وميادين وحارات المحروسة ليحرروها من نظام الدكتاتور فعليهم رحمة الله ورضوانه ولذويهم الصبر والسلون ونشهد لكم جميعاً يا أهالي الأبطال بأنكم صبرتم على فراق أحبابنا وفلذات أكبادكم فهل يمكن أن تصبروا على حكم القضاء ؟
إنكم يا أهلي شهدائنا الأبرار لازلتم بانتظار حكم القضاء بالقصاص العادل ممن قتل أبنائكم في نظام مبارك وداخليته فماذا أنتم فاعلين إذا لم تثبت إدانة العادلي ومبارك وتاهت الأدلة في سياق الفوضى المنظمة التي قام بها الحزب الوطني وشرطة وداخلية مبارك لطمس الأدلة وإتلافها الأمر الذي قد يشعرنا بصعوبة إثبات القتل بالدليل القاطع ما لم تظهر أدلة وشهادات حقيقة تثبت تلقي أوامر مباشرة بالقتل باستخدام الذخيرة الحية وإلى ذلك الحين ما العمل؟
وبالنظر في مسألة القضاء في الإسلام نجد أن النبي صل الله عليه وسلم قد أرسى مبدأ هو غاية في الإنسانية وقمة في الرقي والحضارية عندما قال عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : اخْتَصَمَ رَجُلانِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِمَا أَسْمَعُ مِنْكُمْ ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ أَخِيهِ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ " حديث مرفوع.
وبالتأمل في حديث المعصوم صل الله عليه وسلم نجد أسئلة هامة هي : لماذا لم ينزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم ليعلمه أي الخصمان على حق وأيهما على باطل ويقضي بينهما وفق ذلك؟ ولماذا لم يطلب النبي صل الله عليه وسلم من الله أن يبين له بالوحي المباشر الصادق فيقضي له والكاذب فيعذره ويعاقبه؟
والإجابة هي أنه لو حدث ذلك لتعذر على أي أنسان قبول أي حكم يأتي به إنسان أخر بعد النبي صل الله عليه وسلم ، ثم أليس هو القدوة قال تعالى ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا ﴿الأحزاب: ٢١﴾ فإذا كان القدوة الذي يتنزل عليه الوحي من السماء يقول لنا إن أمر الأحكام القضائية بين الناس هو محض إجتهاد شخصي قد يحتمل الخطأ والصواب، وبه الكثير من الحيل التي قد تنطلي على القاضي العادل فيحكم للمذنب بحق الشهداء وفق المنظومة القضائية البشرية التي تحاول أن تتحرى الحق ولكنها لا تعلم الغيب ، لذا كان من دعاء النبي صل الله عليه وسلم " اللهم إهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مُستقيم ) حيث أرجع المصطفى الهداية للحق في الأحكام إلى هداية الدلالة والإرشاد ولكن قد يحرم الله القاضي هذه الهداية لحكمة يعلمها جل في علاه ، فقد يكون لتشديد الابتلاء والاختبار للمظلومين لأنه يحبهم " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَوْعُوكٌ ، عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَوَجَدَ حَرَّهَا فَوْقَ الْقَطِيفَةِ ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : مَا أَشَدَّ حَرَّ حُمَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّا كَذَلِكَ يُشَدَّدُ عَلَيْنَا الْبَلاءُ وَيُضَاعَفُ لَنَا الأَجْرُ " ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً ؟ قَالَ : " الأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ ، لَقَدْ كَانَ أَحَدُهُمْ يُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلا الْعَبَاءَةَ يَحْويهَا فَيَلْبَسَهَا ، وَيُبْتَلَى بِالْقُمَّلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ ، وَلأَحَدُهُمْ كَانَ أَشَدَّ فَرَحًا بِالْبَلاءِ مِنْكُمْ بِالْعَطَاءِ " . حديث مرفوع
إذاً فعدم دلالة الله للقاضي ليست شراً محضاً بل هي لحكمة عظيمة لا نعلمها ولعل منها اختبار شديداً للمؤمنين ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴿٢﴾ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴿٣﴾أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴿٤﴾مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّـهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّـهِ لَآتٍ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿٥﴾وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿٦﴾ العنكبوت ورغم الابتلاء والاختبار الصعب الذي يحتاج لمجاهدة شديدة للنفس المكلومة يواسي الله المصابين والمكلومين والمفجوعين في مصابهم وشهدائهم وجرحاهم فيقول سبحانه مواسياً لهم ( وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّـهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴿: ٤٢﴾ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴿٤٣﴾وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ۗ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ﴿٤٤﴾ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّـهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴿٤٦﴾فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّـهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ﴿٤٧﴾يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّـهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴿٤٨﴾وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ﴿٤٩﴾سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ﴿٥٠﴾لِيَجْزِيَ اللَّـهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿٥١﴾هَـٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿٥٢﴾ ابراهيم
وبعد أن اتضحت الأمور بهذه القبسات الإلهية والنبوية نجد أنه ليس أمامنا سوى أمران إما الصبر أو الجزع ولكل أجره في الدنيا والأخرة.
ليس معنى الكلام أن نقف ولا نستكمل المحاكمة وأن نأخذ كل الأسباب صغيرها وكبيرة لإثبات حقنا والقصاص من القاتلة ولكن مغزى الكلام هو حديث للإيمان في تسلية للوجدان ورضاً بما يقسمه الواحد الديان.
اللهم ارحم شهداء الثورة المصرية التونسية والليبية واليمنية والسورية وتقبلهم في عليين وشافي جرحاهم ومصابيهم وعليك بكل من قتل النفس التي الله واستحل حرمات المسلمين والعرب ودمائهم وأعراضهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق