المرجعية المصرية بين الحاضر والمستقبل
بقلم / محمد صلاح الدين
أصوات الفناء الخلفي
لازلنا نسمع أصوات من الفناء الخلفي للملعب السياسي المصري تنادي برفع المادة الثانية من الدستور المصري، بعضهم لتحقيق أهداف التغريب للمجتمع المصري ظناً خاطئاً منه بأن وجود هكذا نص سبباً لتأخر الدولة المصرية وعدم قدرتها على تحقيق الإنفتاح الكامل على الثقافة الغربية وبخاصة تطببيق المبادئ الليبرالية والعلمانية المنفتحة، والبعض الآخر منهم ربما لديه مخاوف قد تكون مشروعة ومبررة وتحتاج إلى تأكيدات وتطمينات وتوضيحات موضوعية وعملية قابلة للتنفيذ بدلاً من الوقوف عند حدود الشعارات والعبارات الأدبية المنمقة التي ربما تعزز من تلك المخاوف لعدم وجود مبادرات تشمل برامج ومشاريع عملية تستند في جوهرها ورؤيتها على الشعارات والأدبيات المتداولة، الأمر الذي دعى البعض لإتهام من يطلق تلك الشعارات الإسلامية على أنه يبيع الوهم بدغدغة المشاعر الإيمانية لدى القلب الجمعي المسلم المتدين بالفطرة بهدف تحقيق مكاسب انتخابية وسياسية دون برنامج أو مشروع مدني حضاري واضح المعالم والملامح يتم تبنيه من جميع مكونات المجتمع المصري على اختلاف تراكيبه الثقافية والفكرية.
المشروع الحضاري المصري
لم تقف مخاوف من يجاهر بتلك الأصوات من الوطنيين المخلصين عند ذلك الحد، بل أعلن العديد منهم في غير مرة خشيتهم من دكتاتورية المتدينين الذين ربما ينقلبون على الديمقراطية بعد الوصول إلى الحكم لصالح تدشين الدولة الدينية التي فيها الحكم بإسم الحق السماوي بعيداً عن قبول الإعتراض أو التباين في الرؤى والأفكار والمشاريع السياسية التي تحتمل الخطأ والصواب وفق تقديراتها الإنسانية، لذا يتعين على جميع القوى الوطنية الإسلامية الوسطية المُعتدلة على اختلاف انتمائاتها السياسية أن تتحالف وتتعاون معاً في تلك اللحظة التاريخية الحاسمة من عمر الوطن للإسراع في ترجمة مفهوم وتصور عملي للمرجعية " الإسلامية " بصورة مدنية، وذلك فقاً للإدراك الحضاري المصري الذي تطور عبر العصور المختلفة من خلال ترجمة مشروعاً حضارياً مصرياً يراعي البعد العربي والإسلامي والدولي يشمل مجموعة من البرامج والوسائل المتطورة التي تبرهن على أهمية تطبيق المرجعية " الإسلامية " كقوة دفع للعجلة التنموية الشاملة للمجتمع المصري ولإثبات أن تلك المرجعية ضرورة وطنية وحاجة إنسانية، آخذين بعين الإعتبار الخصوصية التاريخية المصرية التي تلقت الإسلام وتفاعلت معه اعتقاداً وثقافةً كما لم تتفاعل مع أي عقيدة أو فكرة إنسانية عبر التاريخ.
ولن يتأتى ذلك إلا بالتأكيد على إطلاق الحريات واحترام حقوق الإنسان والعمل على تحقيق رفاهيته، والتأكيد على سن التشريعات التي تحافظ على القيم و الثوابت الوطنية المصرية وأهمها الشفافية التي ستعزز الثقة والمصداقية بين مكونات المجتمع المصري من جهة، وتفعيل مبدأ المحاسبة و المساءلة لكل من يتصدى للوظيفة العامة في المجمتع من جهة أخرى، الأمر الذي يحتاج لتطوير منظومة متكاملة من القيم والسياسات التشريعية والقضائية التي تضمن وتصون حقوق المواطن وتحفظ حقوق الوطن مما يتهدده من الأخطار الداخلية والخارجية على حد سواء.
القوة البشرية والإستثمار
يتزامن مع ذلك ضرورة تغير نظرة الدولة من المنظور الإستراتيجي للقوة البشرية الهائلة المتوفرة في مصر وتعديل تلك النظرة لتتماشى مع طموحات ثورة 25 يناير بالنظر إلى تلك الموارد البشرية على أنها أهم أصل من أصول الدولة المصرية ولا يوازي أو يساوي أي مورد آخر هذا المورد أهمية أو اعتبار، عندها فقط سيتم تخصيص جزءاً حقيقياً من موازنة الدولة للإستثمار في تلك القوة البشرية، ومع زيادة التدريب لتنمية قدرات تلك القوة ستتفجر الطاقات المصرية التواقة للإبداع وإثبات الذات، وبالتالي تتحول من قوى عاطلة عن العمل إلى قوى تخلق لنفسها فرصاً للعمل، وإذا ما قامت الحكومة القادمة التي ستُشكل بخلفية إسلامية واضحة المعالم وقامت بتلك الخطوات، ستكون بحاجة ماسة إلى الإهتمام بخلق وتهيئة مناخ الإستثمار لتحقيق النهضة المنشودة من خلال تركيز الاهتمام على أبرز ثلاثة مجالات تمثل مثلث التنمية الحقيقية للدولة المصرية الناشئة، وهي المجال السياحي والعلمي والصناعي، ولكن عليها أولاً أن تقوم باستعادة ثقة المستثمرين العرب والأجانب بصورة تمكن مصر من بناء مركزها المالي العربي والدولي.
ولعل من أبرز الضمانات التي تكسب ثقة المستثمرين هو خفوت الأصوات التي تعبر عن الجاهلية الفكرية التي تتحدث بإسم الإسلام والتي تعتبر التماثيل أصناماً والسياحة فجور وتصف الإبداع بالإبتداع والديمقراطية بالكفر مقابل إعلاء صوت الإعتدال والمرونة الشرعية والفقهية التي تعبر عن سماحة الإسلام وتبرز رحمته للعالمين.
حسم مستقبل الهوية
إن صيانة المجتمع المصري جراء ما لحق به من أضرار وعمليات تهديم وتشويه متعمد خلال عقود طويلة تعمدت فيها الحكومات المتلاحقة افتعال المشكلات حول الهوية الوطنية للمجتمع المصري من خلال التغييب تارة واستدعاء هوية تاريخية تارة أخرى، ويبدو أن المجتمع المصري بعد الثورة أدرك الضرورة الوطنية لحسم مشكلة الهوية في خطوتين تاريخيتين هما استفتاء مارس والإنتخابات التشريعية في نوفمبر 2011 ولن تكون الهوية للصيانة والحماية فقط، بل ستكون بمثابة أحد المولدات الرئيسية للحركة في مصر ودول الربيع العربي والأمة العربية والإسلامية.
ورغم ذلك إلا أنه يتعين على الشعب وحكومته القادمة المحافظة على الموروث الحضاري المصري للحضارات السابقة، فلم يذكر في التاريخ الإسلامي المصري أو غير المصري أن جاء الإسلام لإلغاء الحضارات الأخرى
بل على العكس تماماً، حيث احترم واعترف الإسلام بجميع الحضارات بل وأضاف إليها، ولعل مصر في هذا الشأن خير شاهد و دليل على ذلك حيث لدينا في مصر وجوهاً عدة ، فلم نجد أن الصحابة الذين فتحوا مصر قد قالوا بأن تماثيل الفراعنة أصناماً، أو قالوا بأن الكنائس يجب أن تهدم بعد أن استتب الأمر للإسلام برغبة ورضى الشعب المصري ليبقى دين واحد في مصر، بل بقي من بقي على المسيحية ولم يجبر على الدخول في الإسلام ، من هنا نشأ في مصر التنوع الفريد الذي يحكي قصة ترويها الآثار التي يصدقها السياح، حيث يمكن لأي سائح وزائر لمصر أن يرى لها وجهها الفرعوني الخالص ثم يرى وجهها القبطي والمسيحي، ثم وجهها الروماني ، ثم وجهها الإسلامي الفاطمي والمملوكي، ولعل هذا أكثر ما يميز الدولة المصرية عن غيرها من دول العالم اليوم والتي تتمتع بخصوصية ثقافية واحدة.
من هذا الفهم تبرز قيمة تلك المرجعية المدنية " الإسلامية " التي لا تلغي الآخر وتراثه الثقافي والحضاري بفرض المرجعية الإسلامية على الآخرين جبراً، بل أثبتت تلك المرجعية على أنها جاءت كضمانة حقيقية للمحافظة على إرث الإنسانية، فالإسلام ومرجعيته الحضارية بالإنفتاح على ثقافة الأمم وتقديم نموذجنا الحضاري دون إجبار على فرضه على الشعوب والدول الأخرى كما فعلت حضارات أخرى قامت بفرض نموذجها الإعتقادي والثقافي على أمم وشعوب أخرى باستخدام القوة في رغبة جامحة لطمس الهوية الثقافية للأمم الأخرى وفرض هوية ثقافية على العالم بإسم العولمة.
إذاً فنحن أمة ترفض ممارسة الهيمنة بكل صورها وأشكالها سوء ضدها أو مع غيرها لأننا نؤمن بقيم التسامح الإنساني الذي جاء ليقرر مبدأ الإختيار الإنساني العام (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ،فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ..) الكهف 29 فلا فضل لأحد على أحد أو لأمة على أخرى إلا بالعدل والرحمة والعلم دون إقصاء أو هيمنة ممنهجة لأمة على أمة، عندها ستنطلق الثورة المصرية بقيمها وثوابتها الوطنية الحضارية لقيادة الإنسانية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق