ولا أراك .. خمســة عشـــر يومـــاً (2)
الإدارة النبويــة للحاجـــة الإنســانيــة
بقلــم/ محمـــد صـــلاح الديـــن
يقوم العمل الخيري بدور بارز في تنمية المجتمعات ومساندة الدول في تحقيق الأمن الإجتماعي من خلال تقديم المساعدات الخيرية والإنسانية، إلا أنه قد برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة اعتماد أسر عديدة ( رجال ونساء) على المساعدات الإنسانية أو الخيرية التي تقدمها اللجان الخيرية في جميع أنحاء الوطن العربي، والتي تختلف مسمياتها تبعاً لمطالب وحاجات تلك الأسر أو الأفراد، فقد تكون مطلوبة لسداد أقساط المدارس أو الإيجارات المتأخرة، أو لأقساط القروض المتراكمة أو لدفع أجر لعملية جراحية من العمليات لبعض المرضى من ذوي الأمراض المستعصية، أو لمواجهة شدائد وأعباء الحياة التي تعاني منها تلك الأسر الفقيرة أو هؤلاء الأفراد، إلى غير ذلك من المتطلبات المرتبطة بشتى المجالات الإنسانية، ولا ضير في كل هذا ولكن الضير كل الضير هو في دور الهيئات الخيرية التي لا تقوم بإدارة الأعمال الإنسانية " الخيرية " وفق الرؤية والإدارة النبوية، الأمر الذي قد أفرغ تلك الرؤية من محتواها الحقيقي من خلال ممارسة تقليدية تقوم على ترجمة وفهم سطحي للحديث " الدال على الخير كفاعله " الأمر الذي حول بعض فاعلي الخير والقائمين على الأعمال الخيرية إلى وسطاء وموزعين بدلاً من القيام بمهنتهم الإنسانية الحضارية على الصورة التي قدمها من أُرسل رحمة للعالمين صلوات ربي وتسليماته عليه.
لقد أصبح مصطلح الشحادة أو الطرارة هو الوصف الأكثر دقة لما يقوم به محترفي طلب المساعدات الذين يقومون بابتزاز المتبرعين واللجان على حد سواء من خلال المتاجرة بحاجاتهم الإنسانية لكسب المال بابتزاز العواطف الإنسانية، الأمر الذي ساهم بشكل أو بآخر في ظهور وانتشار هذه الفئة التي تستحوذ بغير وجه حق على جزء ليس بالقليل من أموال المساعدات التي يقدمها المتبرعين.
إن الممارسات الخاطئة للبعض من المتبرعين واللجان والمؤسسات الخيرية قد أوجدت جيلاً جديداً من الأفراد والأسر التي اعتادت على أن تكون يدها هي السفلى بعد أن استسهلت البكاء واحترفت الدعاء للمتبرع، حتى أن بعضهم وصل لدرجة شكاية الله تعالى لعباده أثناء عرض حالته، وبدلاً من توجيههم للتحلي بحسن الأدب مع الله والطلب من عباده " اطلبوا حاجتكم بعزة فإن الأمور تسري بمقادير" نجدهم يستمروا ويزدادوا بشكل مضطرد، وأخطر ما في هذه المسألة هو ما يترتب عليها من تغير حقيقي في منظومة القيم المجتمعية الفردية النفسية منها والسلوكية لأفراد المجتمع.
حيث تأقلم تلك الفئة نفسها وأولادها على الحصول على مساعدات الآخرين ببذل ماء الوجه لفترة طويلة من الزمن، الأمر الذي يؤدي إلى " إدمان المساعدة " كونها تأتي دون جهد حقيقي أو عناء سوى بعض الأداء الدرامي الذي سرعان ما يذوب عقب الحصول على المراد، ومع استمرار هذه الحالة لفترة من الزمن تبدأ معها عملية التحول النفسي والعقلي للفرد، فيتحول من النشاط إلى الكسل، ومن الفاعلية إلى الخمول، ومن القوة إلى الضعف، حتى يصبح غير قادر على تحمل مسئولية نفسه أو غيره، ولما لا وهو الذي لم يستفد من حاجته لإلهاب حواسه وإلهام ذاته لإشباعها بإصراره على الترفع عن المسألة والتعفف عن المساعدة بالسعي الجاد كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحب الحاجة الذي جاء يسأله المساعدة، فقدم له وللأمة وللإنسانية درساً تاريخياً حضارياً يمكن أن نستلهم منه الكثير من الدروس منها:
1- درس حول أهمية دراسة الحالة الإقتصادية والأخلاقية لطالبي المساعدة: حيث تتضح معالم الدراسة الإقتصادية في قوله صلى الله عليه وسلم " لَكَ فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ ؟ " ، قَالَ : بَلَى، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَدَحٌ نَشْرَبُ فِيهِ الْمَاءَ " ثم تتضح معالم الدراسة الأخلاقية بقوله " ائْتِنِي بِهِمَا " لمعرفة قيمة ما توفر له من إمكانيات ليتم بموجبها تقديم الحلول والمقترحات المناسبة للحالة من جهة، ولاختبار مدى جدية ومصداقية الرجل من جهة أخرى.
2- وبعد أن َأَتَاهُ بِهِمَا وتبين صدقه انتقل معه صلى الله عليه وسلم إلى المرحلة الأخرى والتي يمكن أن نطلق عليها مرحلة البحث عن التمويل وتوفير رأس المال الذي يساعده للبداية الجديدة، حيث قام صلى الله عليه وسلم بعمل مزاداً علنياً قائلاً " مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ ثم لم يهتم بتسييل أغراض الأنصاري فقط، بل حرص على الحصول على أعلى سعر لصالحه بقوله: " مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا " إلى أن حصل له على السعر المناسب.
3- وعندها انتقل معه صلى الله عليه وسلم للمرحلة التالية وهي مرحلة التوجيه المباشر، الذي بدأ بوضع ملامح للخطة الشخصية للأنصاري لمساعدته على تحقيق الإستخدام الأمثل لما كسبه من المال من خلال التركيز على محورين رئيسيين متوازيين هما: محور الأسرة ومحور العمل ، حين قال صلى الله عليه وسلم " اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا ، فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا ، فَأْتِنِي بِهِ " ، فَفَعَلَ ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ االلَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَدَّ فِيهِ عُودًا بِيَدِهِ وَقَالَ : " اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَلَا أَرَاكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا " ، فَجَعَلَ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ.
4- وبعد أن تم تنفيذ الخطة وفق المدة الزمنية المحددة الأولى وتأكد النبي من قيام الأنصاري بمتطلبات الجزء الأول من الخطة ، بدأت مرحلة المتابعة مع استمرار التوجيه النبوي فَقَالَ: " اشْتَرِ بِبَعْضِهَا طَعَامًا وَبِبَعْضِهَا ثَوْبًا " وبعد أن ذاق الأنصاري لذة الطعام من عمل اليد ، جاء الدور النبوي التحفيزي للمحافظة على استمرارية الشعور بهذه اللذة وإضافة مشاعر أخرى منها إشعاره بالعزة والكرامة في مواجهة تحديات الحياة المستقبلية من خلال تقبيح المسألة، فقَالَ له : " هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ وَالْمَسْأَلَةُ نُكْتَةٌ فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ ، أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ.
وخلاصة الحديث تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدم المساعدة المادية المباشرة التي جاء يطلبها الأنصاري، بل قدم له ما هو أفضل وأكرم من المساعدة وهي الرعاية النبوية وإدارته لشئونه بدءاً من دراسة الحالة ثم التأكد من الموقف والأخلاق وفحص وتدقيق المعلومات ثم توجيهه لتحقيق الإستخدام الأمثل والأفضل لما لديه من إمكانيات عبر تنظيم أموره بين الأسرة والعمل، ثم الحرص على المتابعة والمراقبة لأحواله خلال فترة زمنية محددة، ثم جاءت المرحلة الأخيرة مرحلة إثارة الدوافع الإنسانية وخلق الحافز للإستمرار وتحقيق النجاح.
من هنا ربما يجب أن نبدأ لإعادة النظر في رؤيتنا للعمل الإنساني وفق تلك التعاليم والمفاهيم النبوية الشريفة التي تُلهم وتُحيي في المجتمع مبدأ " الحاجة أم الإختراع " فلا يركن للإتكال والتواكل على تلك المساعدات، بل يذهب إلى البحث عن الفرص والبدائل لسد الحاجات المجتمعية أو الفردية، وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق